فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)}
أخرج أبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه قال: لما ركب نوح عليه السلام في السفينة فجرت به فخاف، فجعل ينادي: الاها اتقن قال يا ألله أحسن.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: {بسم الله مجريها ومرساها} قال: حين يركبون ويجرون ويرسون.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: كان إذا أراد أن ترسي قال: بسم الله. فأرست، وإذا أراد أن تجري قال: بسم الله. فجرت.
وأخرج سعيد بن منصور والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ: {مجراها ومرساها}.
وأخرج أبو يعلى والطبراني وابن السني وابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه عن الحسين بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا: بسم الله الملك الرحمن: {بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم} و{ما قدروا الله حق قدره} إلى آخر الآية».
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا: بسم الله: {وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام: 91] الآية: {بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم}».
وأخرج أبو الشيخ في الثواب عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه «ما من رجل يقول إذا ركب السفينة: بسم الله الملك الرحمن: {بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم}، {وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام: 91] الآية إلا أعطاه الله أمانًا من الغرق حتى يخرج منها».
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)}
أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه قال: كان اسم ابن نوح الذي غرق كنعان.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هو ابنه غير أنه خالفه في النية والعمل.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه في قوله: {ونادى نوح ابنه} قال: هي بلغة طيئ لم يكن ابنه، وكان ابن امرأته.
وأخرج ابن الأنباري في المصاحف وأبو الشيخ عن علي رضي الله عنه أنه قرأ: {ونادى نوح ابنها}.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة رضي الله عنه في قوله: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} قال: لا ناج إلا أهل السفينة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن القاسم ابن أبي بزة في قوله: {وحال بينهما الموج} قال: بين ابن نوح والجبل.
وأخرج الحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق».
وأخرج عبد بن حميد عن حميد بن هلال قال: جعل نوح لرجل من قومه جعلا على أن يعينه على عمل السفينة، فعمل معه حتى إذا فرغ قال له نوح: خير أي ذلك شئت، إما أن أوفيك أجرك وإما أن نوقيك من القوم الظالمين. قال: حتى استأمر قومي. فاستأمر قومه فقالوا له: اذهب إلى أجرك فخذه. فأتاه فقال: أجري... فوفاه أجره. قال: فما أخذ جاوز ذلك الرجل إلى حيث ينظر إليه حتى أمر الله الماء بما أمره به، فأقبل ذلك الرجل يخوض الماء فقال: خذ الذي جعلت لي. قال: لك ما رضيت به. فغرق فيمن غرق. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)}
قوله تعالى: {وَقَالَ}: يجوز أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ نوح عليه السلام، ويجوز أن يكونَ ضمير الباري تعالى أي: وقال اللَّه لنوح ومَنْ معه. و{فيها} متعلقٌ ب {اركبوا} وعُدِّي ب {في} لتضمُّنه معنى ادخلوا فيها راكبين أو سيروا فيها. وقيل: تقديره: اركبوا الماء فيها. وقيل: في زائدةٌ للتوكيد.
قوله: {بِسْمِ الله} يجوز أن يكونَ هذا الجار والمجرور حالًا من فاعل {اركبوا} أو مِنْ ها في {فيها}، ويكون {مجراها} و{مرساها} فاعلين بالاستقرار الذي تَضَمَّنه الجارُّ لوقوعه حالًا. ويجوز أن يكونَ {بسم اللَّه} خبرًا مقدمًا، و{مَجْراها} مبتدأً مؤخرًا، والجملة أيضًا حالٌ مما تقدَّم، وهي على كلا التقديرين حالٌ مقدَّرةٌ كذا أعربه أبو البقاء وغيرُه. إلا أنَّ مكيًّا منع ذلك لخلوِّ الجملة من ضمير يعود على ذي الحال إذا أَعْرَبْنا الجملةَ أو الجارَّ حالًا من فاعل {اركبوا} قال: ولا يَحْسُنُ أن تكونَ هذه الجملةُ حالًا من فاعل {اركبوا} لأنه لا عائدَ في الجملةِ يعودُ على المضمر في {اركبوا}؛ لأن المضمرَ في {بسم اللَّه} إنْ جَعَلْتَه خبرًا ل {مَجْراها} فإنما يعود على المبتدأ وهو مجراها، وإن رَفَعْتَ {مجراها} بالظرفِ لم يكن فيه ضميرُ الهاء في {مجراها} وإنما تعود على الضمير في فيها، وإذا نَصَبْتَ {مجراها} على الظرفِ عَمِل فيه {بسم اللَّه}، وكانت الجملةُ حالًا من فاعل {اركبوا}.
وقيل: {بِسْمِ الله} حال من فاعل {اركبوا} ومَجْراها ومُرْساها في موضع الظرف المكاني أو الزماني، والتقدير: اركبوا فيها مُسَمِّين موضعَ جريانها ورُسُوِّها، أو وقتَ جريانِها ورسوِّها. والعامل في هذين الظرفين حينئذٍ ما تضمَّنه {بسم اللَّه} من الاستقرار، والتقدير: اركبوا فيها متبرِّكين باسم اللَّه في هذين المكانين أو الوقتين. قال مكي: ولا يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيهما {اركبوا} لأنه لم يُرِدْ: اركبوا فيها في وقت الجَرْي والرسُوِّ، إنما المعنى: سَمُّوا اسمَ اللَّه في وقت الجَرْي والرسوِّ.
ويجوزُ أيضًا أن يكون {مَجْراها ومُرْساها} مصدرين، و{بسم اللَّه} حالٌ كما تقدَّم، رافعًا لهذين المصدرين على الفاعلين أي: استقرَّ بسم اللَّه إجراؤها وإرساؤها، ولا يكون الجارُّ حينئذٍ إلا حالًا من ها في {فيها} لوجود الرابط، ولا يكون حالًا من فاعل {اركبوا} لعدمِ الرابط.
وعلى هذه الأعاريبِ يكون الكلامُ جملةً واحدةً. ويجوز أن يكون: {بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا} جملةً مستأنفة لا تعلُّق لها بالأولى من حيث الإِعراب، ويكون قد أمرهم في الجملة الأولى بالركوب، وأخبر أن مجراها ومُرْساها باسم اللَّه، وفي التفسير: كان إذا قال: {بسم اللَّه} وقَفَتْ، وإذا قالها جَرَتْ عند إرادته ذلك، فالجملتان محكيَّتان ب {قال}.
وقرأ الأخوان وحفص {مَجْراها} بفتح الميم والباقون بضمها. واتفق السبعة على ضمِّ ميم {مُرْساها}. وقد قرأ ابن مسعود وعيسى الثقفي وزيد بن علي والأعمش: {مَرْساها} بفتح الميم أيضًا. فالضمُّ فيهما لأنهما مِنْ أَجْرى وأرسى، والفتح لأنهما مِنْ جَرَتْ ورَسَتْ وهما: إمَّا ظرفا زمان أو مكان أو مصدران، على ما سبق من التقادير.
وقرأ الضحاك والنخعي وابن وثاب ومجاهد وأبو رجاء والكلبي والجحدري وابن جندب {مُجْرِيها ومُرْسِيها} بكسر الراء بعدهما ياء صريحة، وهما اسما فاعلَيْن مِنْ أجرى وأَرْسى، وتخريجُهما على أنهما بدلان من اسم اللَّه. وقال ابن عطية وأبو البقاء ومكي: إنهما نعتان للَّه تعالى، وهذا الذي ذكروه إنما يتمُّ على تقديرِ كونهما معرفتين بتمحض الإِضافة وقد قال الخليل: إنَّ كلَّ إضافةٍ غيرُ محضةٍ قد تُجْعل مَحْضة إلا إضافةَ الصفةِ المشبهة فلا تتمحَّض.
وقال مكي: ولو جُعِلت {مجراها} و{مرساها} في موضع اسم الفاعل لكانت حالًا مقدرة، ولجازَ ذلك ولَجَعَلْتَها في موضع نصبٍ على الحال من اسم اللَّه تعالى: قلت: وقد طَوَّل مكي رحمه اللَّه تعالى كلامه في هذه المسألة، وقال في آخرها: وهذه المسألةُ يُوقف فيها على جميع ما كان في الكلام والقرآن مِنْ نظيرها، وذلك لمَنْ فَهمها حقَّ فَهْما وتدبَّرها حَقَّ تدبُّرها فهي من غُرَر المسائِل المُشْكلة.
قوله: {وَهِيَ تَجْرِي} في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مستأنفةٌ أخبر اللَّه تعالى عن السفينة بذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المستتر في {بسم اللَّه} أي: جريانها استقرَّ بسم اللَّه حالَ كونِها جارية. والثالث: أنها حالٌ مِنْ شيءٍ محذوفٍ تضمَّنته جملةٌ دَلَّ عليها سياقُ الكلام. قال الزمخشري: فإن قلت: بِمَ اتصل قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ}؟ قلت: بمحذوفٍ دلَّ عليه قوله: {اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله} كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون: بسم اللَّه وهي تجري بهم.
وقوله: {بِهِمْ} يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلَّق ب {تَجْري}. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ أي: تجري ملتبسةً بهم، ولذلك فَسَّره الزمخشري بقوله: أي: تجري وهم فيها.
والرُّسُوُّ: الثبات والاستقرار، يقال: رَسَا يَرْسُو وأَرْسَيْتُه أنا. قال:
فَصَبَرْتُ نَفْسًا عند ذلك حُرَّةً ** تَرْسُو إذا نفسُ الجبان تَطَلَّعُ

أي: تثبت وتستقرُّ عندما تضطربُ وتتحرك نفسُ الجبان.
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)}
قوله تعالى: {كالجبال}: صفةٌ ل {مَوْج}. قوله: {نوحٌ ابنَه} الجمهورُ على كسر تنوين {نوح} لالتقاء الساكنين. وقرأ وكيع بضمِّه اتباعًا لحركة الإِعراب. واسْتَرْذَلَ أبو حاتم هذه القراءة وقال: هي لغة سوء لا تُعرف.
وقرأ العامة: {ابنه} بوصل هاء الكناية بواو، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية. وقرأ ابن عباس بسكون الهاء. قال بعضهم: هذا مخصوصٌ بالضرورة وأنشد:
وأَشْربُ الماء ما بيْ نحوَه عَطَشٌ ** إلا لأنَّ عيونَهُ سيلُ واديها

وبعضُهم لا يَخُصُّه بها. وقال ابن عطية: إنها لغةٌ لأَزْد السراة ومنه قوله:
................... ** ومِطْوايَ مُشْتاقان لَهْ أَرِقانِ

وقال بعضهم: هي لغة عُقَيل وبني كلاب.
وقرأ السدي: {ابناهْ} بألف وهاء السكت. قال ابن جني: وهو على النداء. وقال أبو البقاء: ابناه: على التَرَثِّي وليس بندبة، لأنَّ الندبةَ لا تكون بالهمزة وهو كلامٌ مُشْكِلٌ في نفسه، وأين الهمزةُ هنا؟ إن عنى همزةَ النداءِ فلا نسلِّم أن المقدَّرَ مِنْ حروف النداء هو الهمزة، لأنَّ النحاةَ نصُّوا على أنه لا يُضْمر في حروف النداء إلا يا لأنها أمُّ الباب. وقوله: الترثّي هو قريب في المعنى من الندبة. وقد نَصُّوا على أنه لا يجوز حَذْفُ النداء من المندوب وهذا شبيه به.
وقرأ عليٌّ عليه السلام: {ابنها} إضافة إلى امرأته كأنه اعتبرَ قولَه: {ليس من أهلك}. وقوله: {ابني} و{من أهلي} لا يدلُّ له لاحتمالِ أن يكونَ ذلك لأجل الحنوّ، وهو قول الحسن وجماعة.
وقرأ محمد بن علي وعروة والزبير: {ابْنَهَ} بهاء مفتوحة دون ألف، وهي كالقراءةِ قبلَها، إلا أنه حَذَفَ ألف ها مُجْتزئًا عنها بالفتحة، كما تُحذف الياءُ مُجْتَزَأً عنها بالكسرة. قال ابن عطية: هي لغة وأنشد:
أمَا تقودُ بها شاةً فتأكلُها ** أو أنْ تبيعَهَ في بعض الأراكيبِ

يريد: تبيعَها فاجتزأ بالفتحة عن الألف، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله: أنشده ابن الأعرابي على ذلك.
فلستُ براجعٍ ما فاتَ مني ** بِلَهْفَ ولا بِلَيْتَ ولا لوَاني

يريد: يا لَهْفا، فحذف، وهذا يخصُّه بعضهم بالضرورة، ويمنع في السَّعة يا غلامَ في يا غلاما. قلت: وسيأتي في نحو: {يا أبتَ} بالفتح: هل ثَمَّ ألفٌ محذوفة أم لا؟ وتقدم لنا خلاف في نحو: يابنَ أمَّ ويابنَ عَمَّ: هل ثَمَّ ألفٌ محذوفة مجتزَأٌ عنها بالفتحة أم لا؟ فهذا أيضًا كذلك، ولكن الظاهرَ عدمُ اقتياسه.
وقد خطَّأ النحاس أبا حاتم في حَذْفِ هذه الألفِ، وفيه نظرٌ.
قوله: {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} جملةٌ في موضع نصب على الحال، وصاحبُها هو ابنه، والحالُ تأتي مِن المنادى لأنه مفعول. والمَعْزِل بكسر الزاي اسم مكان العزلة. وكذلك اسم الزمان أيضًا، وبالفتح هو المصدر. قال أبو البقاء: ولم أعلم أحدًا قرأ بالفتح. قلت: لأنَّ المصدر ليس حاويًا له ولا ظرفَه، فكيف يُقرأ به إلا بمجاز بعيد؟
وقرأ البزي وقالون وخلاَّد بإظهار ياء {اركب} قبل ميم {معنا} بخلافٍ عنهم، والباقون بالإِدغام، وقرأ عاصم هنا {يا بنيَّ} بفتح الياء. وأمَّا في غير هذه السورة فإن حفصًا عنه فَعَلَ ذلك، والباقون بكسر الياء في جميع القرآن إلا ابنَ كثيرٍ فإنه في الأول من لقمان وهو قوله: {لاَ تُشْرِكْ بالله} [لقمان: 13] فإنه سكَّنه وصلًا ووقفًا، وفي الثاني كغيره أعني أنه يكسر ياءه، وحفص على أصله من فتحه. وفي الثالث وهو قولُه: {يابني أَقِمِ الصلاة} [لقمان: 17] اختُلِف عنه، فروى عنه البزي كحفصٍ، وروى عنه قنبل السكون كالأول. هذا ضبطُ القراءة.
وأمَّا تخريجُها فَمَنْ فتح فقيل: أصلها: يا بُنَيَّا بالألف فحُذفت الألفُ تخفيفًا، اجْتَزَأ عنها بالفتحة، وقد تقدَّم من ذلك أمثلةٌ كثيرة. وقيل بل حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ لأنها وقع بعدها راءُ {اركب} وهذا تعليلٌ فاسدٌ جدًا، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضعَ حيث لا ساكنان. وكأن هذا المُعَلِّلَ لم يَعْلم بقراءة عاصم في غيرِ هذه السورة، ولا بقراءةِ البزي للأخير في لقمان، وقد نَقَل ذلك أبو البقاء ولم يُنْكِرْه.
وأمَّا مَنْ كَسَرَ فحُذِفَت الياءُ أيضًا: إمَّا تخفيفًا وهو الصحيح، وإمَّا لالتقاءِ الساكنين، وقد تقدَّم فسادُه. وأمَّا مَنْ سكَّن فلِما رأى مِنْ الثِّقَل مع مطلق الحركة، ولا شك أن السكونَ أخفُّ مِنْ أخفِّ الحركات، ولا يقال: فلِم وافق ابنُ كثير غيرَ حفصٍ في ثاني لقمان، ووافق حفصًا في الأخيرة في رواية البزي عنه، وسكَّن الأول؟ لأنَّ ذلك جَمَعَ بين اللغات، والمفرِّق آتٍ بمُحالٍ.
وأصلُ هذه اللفظةِ بثلاثِ ياءات: الأولى للتصغير، والثانيةُ لامُ الكلمة، وهل هي ياءٌ بطريق الأصالة أو مُبْدَلةٌ من واو؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أولَ هذا الموضوعِ في لام ابن ما هي؟، والثالثةُ ياءُ المتكلم مضافٌ إليها، وهي التي طَرَأَ عليها القلبُ ألفًا ثم الحذفُ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالِها.
{قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}
قوله تعالى: {لاَ عَاصِمَ اليوم}: فيه أقوالٌ، أحدها: أنه استثناءٌ منقطع، وذلك أن تَجْعَلَ عاصمًا على حقيقته، ومَنْ رَحِم هو المعصوم، وفي {رَحِم} ضميرٌ مرفوعٌ يعود على اللَّه تعالى، ومفعولُه ضميرُ الموصولِ وهو {مَنْ} حُذِف لاستكمالِ الشروط، والتقدير: لا عاصمَ اليومَ البتةَ مِنْ أمر اللَّه، لكن مَنْ رَحِمه اللَّه فهو معصوم. الثاني: أن يكونَ المرادُ ب {مَنْ رَحِم} هو الباري تعالى كأنه قيل: لا عاصمَ اليومَ إلا الراحمَ. الثالث: أن عاصمًا بمعنى مَعْصوم، وفاعِل قد يجيءُ بمعنى مفعول نحو: ماء دافق، أي: مدفوق، وأنشدوا:
بطيءُ القيامِ رخيمُ الكلا ** مِ أَمْسى فؤادي به فاتِنا

أي مفتونًا، ومَنْ مرادٌ بها المعصومُ، والتقدير: لا معصومَ اليومَ مِنْ أَمْرِ اللَّه إلا مَنْ رحمه اللَّه فإنه يُعْصَم.
الرابع: أن يكون {عاصم} هنا بمعنى النَّسَب، أي: ذا عِصْمة نحو: لابن وتامر، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم، والمرادُ به هنا المَعْصوم. وهو على هذه التقاديرِ استثناءٌ متصلٌ، وقد جعله الزمخشري متصلًا لمَدْرك آخرَ، وهو حذفُ مضافٍ تقديرُه: لا يعصمك اليومَ معتصِمٌ قط مِنْ جبلٍ ونحوِه سوى معتصمٍ واحد، وهو مكان مَن رحمهم اللَّه ونجَّاهم، يعني في السفينة.
وأمَّا خبرُ لا فالأحسنُ أن يُجْعل محذوفًا، وذلك لأنه إذا دلَّ عليه دليلٌ وَجَبَ حذفُه عند تميم، وكَثُر عند الحجاز، والتقدير: لا عاصمَ موجودٌ. وجَوَّز الحوفي وابن عطية أن يكون خبرُها هو الظرف وهو اليوم. قال الحوفي: ويجوز أن يكونَ {اليوم} خبرًا فيتعلَّق قالاستقرار، وبه يتعلق: {مِنْ أَمْرِ الله}. وقد رَدَّ أبو البقاء ذلك فقال: فأمَّا خبرُ لا فلا يجوز أن يكونَ {اليوم}؛ لأنَّ ظرفَ الزمان لا يكون خبرًا عن الجثة، بل الخبر: {مِنْ أَمْرِ الله} و{اليوم} معمولُ: {مِنْ أَمْرِ الله}.
وأمَّا اليومَ و: {مِنْ أَمْرِ الله} فقد تَقدَّم أن بعضهم جَعَل أحدَها خبرًا، فيتعلَّقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمنَّه الواقعُ خبرًا. ويجوز في {اليوم} أن يتعلَّقَ بنفس: {مِنْ أَمْرِ الله} لكونِه بمعنى الفعل. وجَوَّز الحوفي أن يكون {اليوم} نعتًا ل {عاصم}، وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعِه خبرًا عن الجثث.
وقرئ: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} مبنيًا للمفعول، وهي مقويةٌ لقولِ مَنْ يَدَّعي أنَّ {مَنْ رَحِم} في قراءة العامة المرادُ به المرحوم لا الراحم، كما تقدَّم تأويلُه. ولا يجوز أن يكون {اليوم} ولا: {مِنْ أَمْرِ الله} متعلِّقين ب {عاصم} وكذلك الواحد منهما؛ لأنه كان يكون الاسمُ مطوَّلًا، ومتى كان مطوَّلًا أُعْرِبَ، ومتى أُعرب نُوِّن، ولا عبرةَ بخلاف الزجاج: حيث زعم أن اسمَ {لا} معربٌ حُذِفَ تنوينُه تخفيفًا. اهـ.